صدر في الايام الماضية من نهايات عام ٢٠١٧ (كتاب : خواطر من زقاق الفولوكسواجن ) ، عن دار الحكمة / لندن ، لمؤلفه : دكتور / محمود ابكر سليمان / الملقب ب ( الطيناوي ) .. منسوبا الي بلدة ( الطينة ) الدارفورية التي ولد و ترعرع فيها ، في احضان والده ( الفكي : ابكر سليمان ) ، و الفكي وظيفة اجتماعية تطلق علي حافظ القرآن ، و معلم العلوم الشرعية المكملة ، و دكتور محمود / الطيناوي ، هو في الاصل طبييب ، و اكاديمي / استاذ بكلية الطب جامعة الخرطوم ، عمل عميدا لكلية الطب جامعة الفاشر ، و رئيسا و مؤسسا لجامعة نيالا ، له مؤلفات في تخصصه / الطب النفسي ، و له مؤلفات عديدة في الثقافة ، و الادب ، و القصة ، مشار اليها في الكتاب .
رواية ( زقاق الفلوكسواجن ) ، جاءت مكتملة العناصر ( الحادثة ، السرد ، البناء ، الشخصية ، الزمان ، المكان ، الفكرة ، ) ، فالرواية في جوهرها تتعلق بالمضاف ، اكثر من كونها تتعلق بالمضاف اليه ، اعني انها تتناول بالتشريح و التحليل ( مجتمع الزقاق ) ، اكثر من كونها تتعلق ( بسيارة الفلوكسواجن ) .. فالكاتب يستخدم سيارة الفلوكسواجن كمحور لتحركاته ( داخل الرواية ) ، من البداية الي النهاية ، تناول الكاتب الاوضاع الاقتصادية و الاجتماعية للاحوال في الخرطوم ، حيث مقر عمله في كل من كلية الطب بجامعة الخرطوم ، و مستشفي الخرطوم ، و طرقات الخرطوم ذهابا و ايابا الي مسكنه الحكومي في حي الاملاك بحري ، ثم منزله الخاص بحي الدروشاب ، و ( زقاق الفلوكسواجن ) / مكان صيانة و تصليح الفارهة / سيارة الفلوكسواجن ، و سوف نفرد فقرة خاصة ( بالزقاق ) بحول الله لاحقا في هذا المقال ، و يعنيني في هذا المقام ان اقول بان الرواية قد حققت اهدافها من ( التشويق ، و الامتاع ، و بل و التسلية ( فدكتور محمود رجل فكه رغم الصرامة و الجدية التي تقتضيها هيبة المهنة ) ، و تفسير الحياة) بكل براعة .
نوه د محمود بكل تواضع الي الروايات المماثلة التي صاغ علي نسها روايته ( زقاق الفولوكسواجن) ، مشيرا الي رواية موسم الهجرة الي الشمال للمبدع السوداني الطيب صالح ، و الي اعمال نجيب محفوظ / ( اولاد حارتنا ) و ( زقاق المدق ) ، و الي اعمال توفيق الحكيم في يوميات نائب في الارياف ، و الي اعمال الكاتب السعودي تركي الحمد صاحب الثلاثية العدامة ، و الشميسي ، و الكراديب ، و الي كتاب ( الايام ) لطه حسين ، و قدم استعراضا لجزء من هذه الكتب لزوم المقارنة ، ليصل الي ان ابطال روايته علي نسق ابطال هذه الرويات ، و هم الناس العاديون من اصحاب الحرف و البسطاء من عامة المجتمع .
علي الرغم من ان دكتور محمود الطيناوي ناشط سياسي في حركة العدل و المساواة ، الا ان الكتاب ابتعد عن السياسة تماما ، فمثلا ، الكتاب تناول بصورة عرضية اسماء كل من ، الرئيس السابق جعفر نميري ، و الحالي عمر البشير ، اشار اليهما الكاتب برتبهما العسكرية ، دون ان يقدح فيهما سياسيا من قريب او بعيد ، و هذا هو اسلوب الاديب المبدع ، فالسياسة ، و ما يتبعها من قدح ، و شتائم و تناول الاخر بالكلام السلبي ، تفسد جو الامتاع الذي يجده القارئ اثاء السرد الرائع للرواية ، و للحقيقة اقول ، ان الحالة الروحية الابداعية العالية التي انتج من خلالها الكاتب هذا العمل الابداعي الرائع ، و هي حالة ( حب صافي ، حب للاحياء و الاشياء و الحجر و المدر) و ( حالة صفاء روحي ، و سلام ) هذه الحالة .. لا تسمح بتاتا ، باستخدام الفاظ الكراهية ، لان العلاقة بين ( الحب ، و الكراهية ) ، كالعلاقة بين ( النور ، و الظلام ) .. لا يجتمعان .
، سيارة الفلوكسواجن : و حالة الطبقة الوسطي في الزمن الجميل :
في صدر الرواية ، تناول الكاتب حالة الطبقة الوسطي في السبعينات ، و الثمانينات ، و حالة السترة التي يعيشها، و التي تمكنه تحمل اهله ، و اقاربه ، و اهل زوجته ، و عطفا علي سيارة الفولوكس اقول ان ، ممتلكات الانسان ( بدءا بربطة الجرجير ، الي الشرابات ، و الملابس الداخلية ، الحذاء ، البدلة ، السيارة ، المنزل .. الخ) هذه اللمتلكات ، لصيقة بكيان الانسان ، و ذاته ، بل ( انها تشكل حالة من حالات (الانا الزائفة) ، و لعل اخطرها (السيارة و المنزل ) ، لانها تدخل في تقييم المجتمع للذات . و عند اهل البادية الرحل في كردفا و دارفور ، من الابالة ، و البقارة ، حيث لا يسوى المنزل شيئا ، فان كمية البقر، او الابل حسب الحال ، تصبح هي الاساس لقيمة الانسان .
د محمود الطيناوي هو نموذج طبق الاصل لحالة الطبقة الوسطي في السودان ، فقد كان الخريج الجامعي في الستينات و السبعينات من القرن الماضي ، بعد سنتين الي اربع سنوات من العمل في الوزارات الحكومية او بنك السودان ، ياخذ حظة من التدريب الخارجي الي بريطانيا ، او مصر ، ثم عند عودته ، يعامل المبعوث معاملة ( اعضاء السلك الدبلوماسي ) ، من حيث المعاملة الجمركية لسيارته ، فقد كان الخريج غالبا ، يتزوج اثناء البعثة ، و ينجب اطفالا يحملون الجنسية البريطانية ، و يعود بسيارته ، و يعود و معه ( قرشين) يشتري بهم منزلا في اطراف العاصمة ( الكلاكلات ، الحاج يوسف ، الدروشاب ، ام بدة ، الثورات .. الخ ، ثم يعيش الموظف كريما ، عزيزا ، عفيفا ، كل مشاكله الشخصية محلولة : ( الزواج ، السيارة ، البيت) ، و لعل سيد خليفة كان يغني لهذا الموظف الكريم الملك حين قال : ( ترمبيله الملك ، بيته الما هو عارية ) .. مثل هذا الموظف عصي علي الرشوة و الفساد . مثل هذا الموظف ( مستور الحال) في الخرطوم يكون بيته منزلا لاهله في الريف الذين يحضرون للخرطوم لاغراضهم المختلفة ، خاصة اذا كانت زوجته بنت عمه ( اي من الغرب ) ، و لعل هذا احد الاسباب الخفية التي جعلت الرعيل الاول من ابناء الغرب عموما ، و دافور خاصة يتزوجون من بنات ام درمان او بحري ، لتقليل جيوش الاهل الزائرين . د الطيناوي تزوج ببنت عمه الكريمة/ فاطمة سليمان ، لذلك ، كان بيته قبلة للضيوف ، و السيارة الفلوكس كانت وسيلة تنقلهم .. و من خلال قراءتي لرواية ( زقاق الفولوكس ) تصورت حجم الضيوف الدارفوريين و غيرهم ، الذين كانوا يحضرون لمنزل الطيناوي ، ( و اهل المرة بصورة خاصة ، ياتون بي عين قوية ، يدخلون البيت من باب النسوان ، و ليس باب الرجال ) .. كل هذه القضايا الاجتماعية ، و حالة الطبقة الوسطي التي تناولتها في هذه الجزئية هي جوهر ما تناولته رواية ( زقاق الفوكسواجن ) في الصدر الاول من الكتاب .
الناس في ( زقاق ) الفلوكسواجن ؟
متن الرواية ينصب علي ( الزقاق ) .. و ينطبق علي هذا الزقاق رائعة مجنون ليلي :
و ما حب الديار شغفن قلبي …. و لكن حب من سكن الديار
( فزقاق ) الفولوكسواجن عند الطيناوي هو مجاز مرسل علاقته المحلية ، يقصد به ( الطبقات الاجتماعية التي تعيش ، و تترزق في هذا المكان المتواضع ، و لا اقول البائس ) .. و هم علي شاكلة ( الميكانيكي / علي كودي ) .. و ( علي كودي ) هذا ( مسيحي و ليس ( شيعي اثني عشري ) .. مرة اخري .. يتناول د الطيناوي في هذه الرواية موضوع التنوع السوداني ، و التسامح داخل الاسرة السودانية ، حيث تجد جزء من الاسرة من المسلمين ، و الاخر مسيحيين ، و ( كل يعمل علي شاكلته ) ، بمنتهي اللطف و الحب و التسامح ، اقول ، ترسل الرواية رسالة كاملة عن التنوع السوداني و التسامح ، دون هرج سياسي ، و دون اثارة ، و دون لعن لواقعنا المرير .. انه الابداع الصافي ، لا كراهية ، و لا اثارة في هذا المقام !!
تتناول الرواية المعلم بخيت /معلم سمكرة العوادم / الرجل البشوش ، و بياعي الخردة / قطع الغيار ، و عالم ( البهيجية ) ، الذين يتخصصون في طلاء العربات ، ثم تفرد الرواية مساحة مناسبة ( لفئة الباعة المتجولين ) ، يصفهم الكاتب وصفا رائعا ( اي تلخيص يمسخه ) .. لذلك سانقله حرفيا : ( و بالقرب من هؤلاء يري الباعة المتجولون ، و هم افراد من الطبقة الكادحة ، يبحثون عن الكسب من خلال راسمالهم القليل ، و ارباحهم الزهيدة ، و بضاعتهم المتواضعة ، و من الصعوبة بمكان في بعض الاحيان التمييز بينهم و بين المتسولين ، و لكنهم في حقيقة الامر تساموا الي خانة التكسب الحلال ، فتجدهم حاملين بضاعتهم المتمثلة في الملابس الشعبية الجاهزة ، و الاواني المنزلية .) و شبههم الكاتب في الادب الغربي بمسرحية ( موت بائع متجول) التي ترجمت الي اكثر من عشرين لغة لصاحبها الكاتب المسرحي الروائي الامريكي آرثر ملر .
و لا يفوتني قبل ان اغادر ( هذا الزقاق ) الذي ابدع الكاتب في ترجمة الحياة فيه ، فادلف الي جانب ( العنصر النسائي) في هذا الزقاق ! تصور الرواية ، و تسلط الاضواء علي ( قضية ستان الشاي ) في الخرطوم ، و هي قضية الساعة ، في الخرطوم حيث منعت سلطات المحافظة ستات الشاي من عرض خداماتهن في شارع النيل . تناولت الرواية بسلاسة تامة جذور المشكلة و ارتباطها بالنزوح من شمال كردفان و دارفور بسبب الجفاف و التصحر ، و ما تبع ذلك من ظهور احياء مثل ( المويلح) في اطراف العاصمة ، و تفاقم النزوح ليتحول الي ما يسمي ( بالحزام الاسود حول العاصمة ) ، تناولت الرواية احصائيات ستات الشاي ، و الكشات .. الخ .
اخلص الي القول ، بان ( رواية زغاق الفلوكسواجن ) ، لكاتبها ، د محمود ابكر سليمان الطيناوي ، هي رواية عالمية ، بكل المقاييس ، و هي رواية مطربة ( رغم انف الذين يقولون : منشد الحي لا يطرب ) ، كتبها مثقف سوداني ، موسوعي من الطراز الاول ، و انسان ، دارفوري / طيناوي ، خرطومي بلا نزاع ، كويتي الثقافة ( كان معارا من جامعة الخرطوم ، لجامعة الكويت لمدة خمس سنوات ) ، ثم هو بريطاني الثقافة ، و الجنسية / المزدوجة ، فهو ملم بتراث و ثقافة الشرق و الغرب ( عيني باردة عليه) ، و احصنه بسر : الفاتحة ، و المعوذتين ، و الاخلاص ، و ( يس و طه ) – و موضوع التحصين هذا هو جزء من محاور موضوعات الرواية في بعدها الاجتماعي و الثقافي و جزء من موروث والده / فكي ابكر .
همسة في اذن / القارئ : هذه الرواية ملهمة مليئة بالطاقة الواردة و المتدفقة من مقام ( الخالق، البارئ ، المصور ) :
سر بيني ، و بين القارئ الكريم : لقد قرأت رواية ( زقاق الفلوكسواجن ) بحب عميق ، بقصد ( قطع المسافات ، و تجاوز المقامات ، و تخطي العقبات داخل حنايا نفسي ) ، وصولا الي منابع الخلق و الابداع التي نهل منها د الطيناوي . لقد خلق د محمود الطيناوي ( رواية زقاق الفلوكسواغن ) من اعماق نفسه العليا النقية ، لذلك ، فهو معدي ، ينشر عدي الابداع ، و الخلق ، لا نجانا الله من هذه العدوي و لا شفانا ، فهو انسان ملهم ، و كريم ، ليقينه بان الهام الاخرين لا ينقص من فضله شيئا ، بل ، بالعكس ، فان الهام الاخرين يزيده فضلا ، و بركة ، و رفعة ، فالمخزن الذي يلهم منه د محمود قراءه هو المخزون عند الله ، و الله غني ، واسع عليم .
ابوبكر القاضي / عتيق .
كاردف / ويلز / المملكة المتحدة .
١٨/ ديسمبر/٢٠١٧ .